![](https://akhbrkm.com/wp-content/uploads/2025/01/IMG-20240704-WA0585-1-780x470.jpg?v=1736488839)
العالم الرقمي والقراءة بقلم الكاتب والإعلامي عبدالقادر بن سليمان مكي
نعيش أوقات ملائمة ومحفزة للقراءة أكثر من أي وقت مضى من خلال الوسائط الرقمية وما تطالعنا به المواقع الإلكترونية والشبكات الإجتماعية بشكل متواصل من أخبار وقصص سواء على الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية والمكتبية ومن جهة أخرى نرى كثيراً من الإغراءات للقراءة بطريقة سطحية ومجتزأة بل ربَّما نراها تغري بمجرد التصفح ومشاهدة الصور والعبارات البارزة مع عدم قراءة المضمون على الإطلاق وهو ما يعرّض ما يُعرف بالقراءة العميقة للخطر بشكل متزايد،
فقد أصبحت القراءة محصورة بنخبة معينة فقط تحرص على القراءة بطريقة نقدية واعية تمكننا من إستعادة مهارة القراءة العميقة ولاسيَّما الجيل الجديد
نتخيلُ ذاتنا مسافرين عبر القارات متجهين إلى أحد المكتبات المنسيّة أو دور نشر عالمية فلدي في مكتبتي كتب ربَّما تفوق ما جمعه الجاحظ في حياته،
ولكن هل هذه الإمكانية التي تستبيح الوصول إلى ما عجز عنه الأولون عبر شاشة صغيرة هي ميزة لعصرنا والحقيقة أنه فيما حصّن العالم الرقمي كُتبنا من إحتماليّة التلف، إلا أن البيانات السحابية قضت بتلك الإتاحيّة وبكثرة السيل المعلوماتي على قدرتنا على الإنتباه فقضت وسائل التواصل الإجتماعي بما تقدمه من آلاف المعلومات المتجاورة في الصفحة الواحدة على متعتنا في تأمل كتابات طويلة مثل أعمال جويس أو محفوظ أو ماركيز،
ولربَّما هذا ما أعدم ذائقة القارئ الحديث دون وعي منه،
لقد حرمَ العالمُ الرقمي القارئ من متعة التأمل طويل المدى ويمكنني أن أقول إن فنّ الرواية الملحميّة الذي عرفه تولستوي وفوكنر،
قد أعدِم في عصرنا هذا.
وهل يمكن إستعادة القارئ الجاد والقارئ الذي يعي قيمة النص الجماليّة فلعل هذا أمر مستبعد أمام تسطيح وسائل التواصل الاجتماعي للجماليّات وللنصوص الأدبيّة وإباحتها مشاركة جميع الأفكار دون رقابة نقدية متخصصة كالماضي لقد قلصت تلك المنصات الحسّ النقدي لدى معظم القرّاء وتركتهم في متاهات من الوهم معتقدين أن الجمال في السرعة والعمق في التخلي عن المعنى
من وجهة نظري وأجد أن القراءة العميقة تهيئ للقارئ مساحة لبناء فهمه الخاص لهيكل النص والوجود على حد سواء بمعزل عن الأيديولوجيات السائدة والفلسفات ضيقة الأفق
وهذه التجربة تدعم مفهوم تكوين تفكير مستقل يمكن للأفكار والحياة أن تتخذ أبعاداً جديدة وعمقًا مبتكراً وتبعًا لذلك ينكشف الستار عن طبقات غير مألوفة في الحقيقة كل ما أحتاجت إليه تأملات ووقفات قصيرة نتبيَّن من خلالها إمتدادها في وقت تتسارع فيه الآراء،
أعتقد أن القراءة غير المعمقة تمثِّل إستجابة للضغوطات التي يفرضها نقص التوجيه فبينما يتعرض القارئ لسيول من المعلومات والمؤلفات المتنوعة يفتقر الكثيرون إلى الموارد والمراجع ومن ثَمَّ إلى الأدوات اللازمة لتفكيك النصوص وتقديرها بشكل أعمق،
يمكن إستعادة مهارة القراءة العميقة لدى الجيل الجديد من خلال تعزيز فهم أن النصوص ليست مجرد معلومات واللغة إضافة إلى كونها محاولة تواصل مع العالم هي في الأصل محاولة تواصل ما بيننا وبين أنفسنا وأستعارة نستخدمها لتقليل الفجوة بين العالم المادي والفكري
أنا أعتقد أننا سوف نستعيد العمق عندما ندرك أن اللغة إنَّما وجدت لأجلنا لنتمكن من خلالها أن نترجم معانينا،
لا يسعني التطرق إلى مفهوم القراءة المتعمقة دون التعريج على مفهوم التركيز بصفة عامة تعدنا منصات التواصل الإجتماعي بمختلف ضروب المحتوى المسلي والمفيد على أن كون ذلك المحتوى مفيداً أم لا ليس السؤال الأهم بل الأهم هو ما إذا كنا بحاجة لتلك المعلومات المفيدة في زمن أو مرحلة محددة دون غيرها،
ما أجمل تلك اللحظات التي يغرق فيها المرء بين دفتي كتاب يسبح في بحور الكلمات يستنطق الأفكار كما يستنطق الشاعر النجوم إنها لحظات من الصفاء الذهني حيث تتوقف عقارب الزمن وينصرف العقل إلى تأمل هادئ وسكون مستفيض،
إن القراءة العميقة ليست مجرد اكتساب للمعرفة بل هي ارتحال إلى عوالم أخرى ومجالسةٌ لأعظم العقول التي خطّت كلماتها على مرِّ العصور إنها تربية للذهن على التفكير النقدي وإستنطاق المعاني الخفيّة بين السطور فلا تُفضي بالقارئ إلا إلى مراتب الحكمة واتساع المدارك،
غير أننا اليوم في زمن نستخدم فيه التقنيات وتُغرينا بسهولة الوصول قد رأينا كيف أصبحت القراءة السطحية عادةً مكتسبة لا يبتغي منها المرء سوى المرور السريع على العناوين دون إستيعاب المعاني الكامنة في الأعماق وغدت القراءة العميقة عادةً نخبوية محصورة في قلة تدرك قيمتها وتحرص على الإحتفاظ بها كمن يحتفظ بدرر ثمينة في عالم يغشاه الزيف بينما ينجرف البقية في دوامة المعلومات السطحية والتشتت الذهني،
ولا سبيل لإستعادة هذه المهارة النفيسة إلا بترسيخ حب الكتاب في النفوس الناشئة
بتشجيعهم على التفاعل مع النصوص والإرتباط العميق بها وعلينا أن نُعيد زمن القراءة الهادئة بعيداً عن صخب الشاشات وإغراءات التصفح السريع حتى ينمو الجيل الجديد على التأمل والإستغراق ويظل العقل قادراً على التحليق في فضاءات الفكر دون قيود إنها دعوة للعودة إلى خلوة مباركة مع الكتاب تُحيي فينا روح الفكر المتأمّل وتُعيد لحظات الصفاء الذهني التي تسرقها سرعة العصر.