مقالات

ملامح الإبداع بديوان «قصيدة ويحملني الثرى قمرا» لأحمد القدومي بقلم الكاتب حمد حميد الرشيدي

لعلي لا أذهب بعيداً فيما لو قلت إن من يتصفح هذا الديوان سيجد أنه أمام قصيدة واحدة مطولة في ديوان واحد، أو من الأحرى أن نطلق عليه اسم (القصيدة الديوانية) التي تعتمد في أسلوبها وشكلها ومضمونها على فنيات الشعر الملحمي، والمعتمد بدوره على النفس الشعري الطويل، وعلى استلهام التراث والماضي ورموزه، والأحداث التاريخية المخضبة بحب الأرض وأهلها، وتوظيفها بقالب شعري ذي رؤية فنية تعيد اكتشافها من جديد، وتقدمها بلغة عصرية لا تجتر ماضيها ولا تتنكر له ولا تماحكه، بقدر ما تحاول أن تجعل منه امتدادا لحاضر حي ينبض بالحياة والأمل والتفاؤل والمستقبل المشرق، ويجب أن يستمر هكذا مهما كانت الظروف المحيطة. وبنوع من المزاوجة اللغوية الفنية بين الحرف واللون، فقد قام شاعر الديوان بعناية فائقة بتدعيم مقاطع هذه القصيدة المطولة طيلة امتداد صفحاته بلوحات تشكيلية للفنان العربي الفلسطيني الراحل: ناجي العلي – رحمه الله – أحد أشهر فناني الرسم (الكاريكاتيري) العربي خلال فترة السبعينيات والثمانينيات الميلادية، والذي اشتهر برسمه للشخصية الكاريكاتيرية المعروفة بـ (حنظلة الشجراوي)، بحيث جاءت كل لوحة منها معبرة تعبيراً مكثفاً ورمزياً عن مضمون كل مقطع من تلك المقاطع الشعرية المشار إليها. وهذا الأسلوب الذي يجمع بين الشعر والفن التشكيلي هو ما درج على انتهاجه معظم شعراء مدرسة الشعر العربي الحديث في العصر الراهن، حين يصدرون دواوينهم أو مجموعاتهم الشعرية، لكونهم ينظرون إلى أن النواحي الفنية ابتداء من تصميم الأغلفة الخارجية لدواوينهم لدى إصدارهم لها بما فيها اختيارهم للوحة الغلاف الخارجي وما تتضمنه من لوحات تشكيلية أخرى مصاحبة لكل نص من النصوص هو جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية ككل. وهذا كله بخلاف الشعراء القدامى الذين يركزون على الحرف والكلمة واللغة فقط، وقد لا يعيرون النواحي الفنية لمطبوعاتهم شيئا من الاهتمام. إن أول ما يطالعه قارئ هذا الديوان هو ما جاء بعد (صفحة الإهداء) مباشرة من مقدمة طويلة ومفصلة بقلم الدكتور نذير العظمة عن الشاعر وتجربته الشعرية، متناولاً خلالها نهجه الشعري المتميز ولغته الشعرية وأبعادها الجوهرية جاء من ضمنها قوله: (تنطوي معاناة الشاعر / أحمد القدومي على أبعاد جوهرها ينطلق من الذات التي تتلبس الوطن والتاريخ وجهاً واحداً ينطق بلسان هذه المعاناة شعراً عذباً يخرج من القلب. ويبادرنا الشاعر منذ مطلع القصيدة بالطفولة المنفية والعودة إلى الأم لإلغاء هذا النفي على الأقل من الناحية النفسية فيخاطبها ذاتاً تتلبس الوطن الخرافي فيقول: أماهُ.. جئتُ من المنافي.. أحمل الذكرى.. وتحملني الليالي.. نحو درب لا أراه.. ولست أعرف من ينادي.. من بعيدٍ.. كل المواسم في دمي.. غضبٌ.. ولحن الأرض في نجوى النسائم.. قصة للحب يرسمها الهوى.. نغماً على شفتي نشيدي…). ويستأنف الدكتور العظمة حديثه عن شاعر الديوان بقوله: (لكن عذابات النفي والانفصال عن الوطن والأمومة تتحول إلى نشيد يهدر من الأعماق، ويتموج بين الغضب واليأس وإيقاع يكثف معنى النفي.. لا في ذلك فحسب، بل في أنهم: ذبحوا القصائد والنوارس والعصافير الجميلة في الفؤاد من الوريد إلى الوريد. وفي موضع آخر من هذه المقدمة التي وضعها الدكتور العظمة للديوان يأتي قوله مستقرئاً عنوان هذا الديوان أو مسماه: (والقصيدة كلها على هذا المنوال كأنها آهة لا تنتهي، كأوتار الربابة تبكي، ولا يجد الشاعر مخرجا من الموت إلا أن يصير قمراً يحمله إلى الوطن). انتهى كلام الدكتور العظمة. تميز ديوان الشاعرأحمد القدومي هذا عن غيره من كثير من الدواوين التي قرأناها أو اطلعنا عليها في جانبين يمكن حصرهما كالتالي: الأول: جانب لغوي ثقافي معرفي، وهذا يتجلى لنا في النفس الشعري الملحمي الطويل الذي اتسم به الشاعر وقوة لغته وعمقها المتكئة على مخزون لغوي وثقافي واسع، استلهم خلاله تراث وطنه وأمته بقديمه وحديثه ووظفه توظيفاً شعرياً موفقاً. وتظل مسألة النفس الشعري الطويل – بحد ذاتها- مسألة استثنائية محسوبة لصالح شاعر الديوان، خاصة أن الشعر العربي الحديث قد طغت على أصحابه مسحة الإيجاز والاختصار، وتكثيف الصورة فيما يكتبونه أو يقولونه من شعر، فهم يعيشون عصر السرعة والإيجاز المعلوماتي السريع الذي يناسب ذائقة عامة الناس في هذا الزمن، مبتعدين عن الإسهاب والتفاصيل الشعرية المطولة التي ينفر منها إنسان هذا العصر. الثاني: جانب فني، حيث كان الشاعر موفقاً في اختياره لمجموعة من اللوحات التشكيلية المصاحبة لكل مقطع من مقاطع هذه القصيدة الديوانية الملحمية، والمعبرة عن محتوى ومضمون كل مقطع منها على حدة. وهذا مما يساعد القارئ على استيعاب النصوص المرمزة، أو تلك الموغلة في (شيفرتها) ويفتح أمامه مغاليقها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى