
كيف تعيش بلا جمهور؟
حياةٌ تبنيها القناعة لا التصفيق!
بقلم الكاتب هاني العروي
في عالمٍ يمتلئ بالأضواء السريعة والضجيج اللحظي، يعيش البعض بلا جمهور. لا منصة تنتظرهم، لا عدسة تلاحقهم، ولا تصفيق يرافقهم. ينهضون دون إعلان، ينجزون دون تغطية، ويصنعون الفرق بصمت… ومع ذلك، فإنهم حاضرون. لأن القيمة لا تأتي من الظهور، بل من الإخلاص في الغياب.
أن تعيش بلا جمهور، لا يعني أنك بلا أثر. بل يعني أنك تؤمن أن الفعل أصدق من القول، وأن الإنجاز لا يحتاج ضوءًا ليُرى. هو اختبار نادر لصدق الإنسان مع نفسه، وهل يستطيع أن يواصل الطريق حتى وإن لم يصفق له أحد.
وأنا كاتب وصحفي… أعرف كيف يبهرك المشهد، كيف تُغريك الأرقام، وكيف تهمس لك المنصات أن البقاء لمن يُرى. لكنّي تعلّمت – وربما بعد وقت – أن الكلمة التي لا تنبع من الداخل، لا تصل. وأن أثر النص لا يُقاس بالتفاعل، بل بما يتركه في عقل قارئ، أو في شعور صامت لم يُعلّق.
أكتب لأن في داخلي ما لا يُقال بسهولة، أكتب لأن الكتابة تريحني، توازنني، وتمنحني مساحة لا تقيّدها الحسابات. لا أكتب بحثًا عن متابعين، بل لأن هناك فكرة تستحق أن تُقال، وناسًا يستحقون أن تُهدى إليهم.
أنقل الكلمة لا لأتفاخر بها، بل لأشارك بها مجتمعًا قد يجد فيها نفسه. ما أكتبه ليس استعراضًا، بل محاولة لردّ جزء من الدَين تجاه الوعي.
من لا جمهور له، لا يعني أنه من دون قيمة… بل ربما كانت قيمته أعمق من أن تُقاس بالظاهر.
الجمهور الواعي لا يمنحك قيمتك… بل يُعبّر عنها، يراها، ويُضيء طريقها لمن حوله. هو المرآة النزيهة، والصدى النبيل. لكن القيمة الحقيقية، تبدأ من الداخل، من صدق النية، ومن الفعل الصامت الذي لا ينتظر تصفيقًا، بل يترك أثره حيث يجب أن يُرى.
في زمنٍ تُسوّق فيه الشخصيات، وتُلمّع فيه السطوح، يصبح الثبات عملة نادرة، ويصبح الهدوء قوّة، والنية الصافية مكسبًا لا يُشترى. لا تخف من العيش بلا جمهور… فربما كانت تلك النعمة التي تحفظ لك حقيقتك من التزييف.
الذين يعيشون بلا جمهور لا يُنسَون… بل يُكتشفون متأخرًا. لا يظهرون كل يوم، لكن حين يحضرون، يحضر المعنى. لا يحتاجون عناوين ضخمة، لكنهم يمنحون الحياة تفاصيل أصيلة. وجودهم مثل الجذور… لا تُرى، لكنها تحمل الشجرة كلها.
فلا تخشَ أن تعيش بلا جمهور… فإنك حين تتقن العيش في الظل، تصنع نورًا لا يذوب