السياحة والترفيه

قراءة ليست عابرة..في ماهية الطنطورة واحتفال أهل العلا بدخول مربعانية الشتاء

مع نهاية يوم الأمس 21 ديسمبر بنهاره الدافيء وليلته الصاخبة..
تكون الفعاليات الافتتاحية لمهرجان شتاء طنطورة في العلا قد طوت أول أيامها المبهجة حفاوة بمقدم موسم مربعانية الشتاء الذي عرف بشتاء طنطورة كبراند تسويقي لمجمل الوجهات السياحية للعلا طيلة الموسم كالعادة من كل عام إذ يحتفلونأي أهل العلااحتفالهم التراثي الموسمي العميق الجوهر الأنيق المظهر من غير مظاهر بهرجة مبالغ بها بمناسبة دخول مربعانية الشتاء.حيث يتم ومنذ أزمنة قديمة لايعرف تأريخها الدقيق بالضبط احتساب بدء موسم مربعانية الشتاء بالثانية من الدقيقة من ظهيرة 22 ديسمبر من كل عام عن طريق( المزولة الشمسية )المشيدة لنقل منذ مئات السنين بالحسابات التقريبة غير الدقية لتشييد الطنطورة في البلدة القديمة من العلا الشمالية الواقعة شمال غرب المدينة المنورة كأخر نقطة جغرافية في إقليم الحجاز القديم وأول نقطة جغرافية في إقليم بلاد الشام القديم بحسب الجغرفة القديمة وآخر محافظة شمالية غربية تابعة إداريا لمنطقة المدينة المنورة بحسب التصنيف الإداري وبالتالي الجغرافي الحديث.

بينما يحدث أن يحتفل أهالي العلا بدخول موسم مربعانية الشتاء ظهيرة يوم 21 ديسمبر كما حدث يوم الأمس عندما يسجل فلكيا للعام الميلادي مسمى السنة الكبيسة التي تتكرر كل 4 أعوام بعدد أيام تقل بيوم واحد عن عدد أيام السنة المعتادة.

دخول مربعانية الشتاء في العلا يتم اعتماده عندما يتعامد ظل أعلى نقطة في الشاخص البنائي للمزولة الشمسية المسماة ب(الطنطورة) الشاخصة البناء الهرمي جنوب شرق البلدة القديمة في أول منحدر مايسمى تاريخيا بصعيد قرح المشيد على هضبته مسجد العظام الذي خطه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعظام كما ورد بالنص في الحديث الشريف.

التعامد يحدث في 1 من الجدي بأمر الله مدبر الكون مسير شؤون خلقه مع نقطة معينة موسومة بحجر مغروس ثابت في الأرض شمال موقع الطنطورة التي هي بحق إحدى منجزات أهالي العلا الحضارية الشاهدة على تميز أهالي العلا وتفوقهم في العلم ومدركات احتياجاتهم الكلية التي تذوب داخل منظومتهم العملية ومكوناتهم الاجتماعية كل فردانية غير منتجة وتطفو الجماعية المنتجة للنافع من الحياة على سطح طبيعتهم الفكرية والمسلكية بالنظر لقدم تكوين مجتمع العلا بذات مكوناته العشائرية والأسرية داخل كل عشيرة أو حمولة وكلها باقية حتى اليوم.حيث المجتمع الضارب العراقة والقدم والتكوين بموجب مخطوطات الوثائق الحقيقية المدونة مابين أعوام 780 هجرية و 850 هجرية.
والوثائق ذاتها هي أيضا منجزات ذات طابع اجتماعي ثقافي يمكن الاعتماد عليها من الناحية العلمية التأريخية في رصد أقدم تاريخ للهجة العامية كون الوثائق التي تم تدوينها في العلا قبل 800 عام تقريبا مدونة بالعامية وإن كانت أقرب للفصحى.كما تمثل بعض العقود الاجتماعية المكتوبة أنساق التعايش بين مكونات المجتمع أيضا مدونة باللهجة العامية في وقت كان العرب في حياتهم يدونون كل شؤون حياتهم وآدابهم ورحلاتهم وصنوف مؤلفاتهم بالعربية الفصحى.
وهي أيضا أي الوثائق حافلة بتوثيق العديد من مظاهر الحياة في العلا القديمة..سواء في مايتعلق بالعادات والتقاليد والآداب والثقافات والأعراف الضابطة لصيرورة الحياة وعلاقات الناس أو مايتعلق بسبل الحياة العملية وطرائق العيش بأفراحها وأتراحها.

لذلك احتفال أهالي العلا بلحظة دخول (مربعانية الشتاء)في موقع الطنطورة ذاتها في ظهيرة 22 ديسمبر أو 21 ديسمبر كيوم الأمس من كل عام لايتوقف عند المشهد الظاهر المعروف سلفا للجميع كترقب ورصد مجرد لدخول فصل مربعانية الشتاء فقط..ولكنه احتفال أعمق وأشمل وإن كان مختزلا مظهريا في الصيغة الكرنفالية لكن يستدعي من خلاله أهالي العلا منجزات الأسلاف من الأجداد والأباء عبر سرديات يرويها أبناء العلا ممن خبروا تراث الآباء والأجداد مستخدمين بعض الأدوات كنماذج للتمثيل البيئي لتبسيط عمليات الشروحات الساردة على سبيل المثال آلية توزيع مياه العيون في تقاسم أهل العلا حصصهم لسقاية وري بساتينهم.

تلك منجزات حضارية بلاشك في النظم الحياتية لإدارة شؤون المجتمع المحلي الريفي الزراعي بتعبير أدق ارتبطت بالهندسة العمرانية الفريدة للبلدة القديمة..ومنجزات ارتبطت بالحكايا الماجدة،والبطولات المجيدة..ومنجزات ارتبطب بالزراعة والحصاد ومابينهما من تفاصيل دقيقة لايدرك مشقتها وأسرار دقتها المنتجة إلا أهل الزراعة بما في ذلك الأهم بطبيعة الحال أي الري ووسائل السقاية وطرائق إدارة حصص المزارعين المعقدة حسابيا لكنها الموزعة بالعدل والقسط من مياه العيون لمزارعهم التي هي الأخرى يتم احتسابها بشكل زمني دقيق بمايشبه الهندسة الزمنية عن طريق تعارف على تسميته أهالي العلا ب(الورقة).أي الحصة لكل بستان من ماء العيون التي يقال إلى وقت قريب في بضعة عقود كان عددها مايقارب من الثمانين عينا تقلصت مع الزمن تدريجيا إلى أن تلاشت مع طفو المدنية الحديثة وظهور الميكنة التي ساهمت في نضوب المياه الجوفية في أكثر من مستوى طبقي.

أيضا في القدم كانت المساحة المجاورة للطنطورة التي هي اليوم مقر الاحتفال السنوي أشبه بالبرلمان أو مجلس الحكم المجتمعي(العرفي) بالمفهوم الصحيح السليم إن جاز التعبير..حيث يجتمع أهالي العلا في ذات المكان للتداول في أمور حياتهم اليومية للتشاور في مابينهم واتخاذ القرارات العامة للصالح العام.

كما كانت تشهد منطقة الطنطورة أيضا بجانب أكثر من نقطة في البلدة القديمة انطلاقة رحلة الشتاء والصيف لأهالي العلا مابين بيوت النخل الصيفية في البساتين والعكس عندما يحل الصيف بمباهجه طلبا للاستمتاع بأجواء صيفية ألطف ومتوجة بالأفراح والليالي الملاح مع أعراس موسم الزواجات في الصيف،وأيضا لرعاية شؤون النخيل وجني محاصيلها بمايسمى ب(الجداد)..
وبين بيوت(الدور)في البلدة القديمة ذات السور(الصور)الحصين المموه من ذات تصميم بيوت البلدة وال14 بوابة،وتوزيعات فراغية هندسية مابين الدروب والأزقة والبرحات ومساحات ماتحت (السقايف)أي الغرف العلوية المعلقة الواصلة مابين بيت وبيت فوق الأزقة وكل المدينة بطبيعتها المدهشة التي أدهشت الرحالة الذين زاروها من مختلف الأمصار وفي مختلف العصور وكتبوا عنها كل دهشتهم وهم أهل مدن وأرباب مساكن فائقة المدنية على مافي البلدة القديمة المخصصة بالكامل للسكن الواقي من برد الشتاء لطبيعتها الهندسية المعمارية المتداخلة المتعرجة الطرقات اللصيقة الحارات كمتاهة للغريب إن حدثته نفسه وقرر غزو البلدة أو اختراقها من أية جهة لإحداث مايعكر صفو البلدة وأهلها فيكون مصيره/العقوبة التلقائية بالضياع داخل أزقة البلدة إلى أن تكون خاتمته القبض عليه وإنهاء شره.
وفي ذلك حكايا لطالما تغنى بها أهل العلا وسطروا فيها أمجادا تروى جيلا بعد جيل.

أيضا من مناقب الطنطورة المتجاوزة للجوانب الفلكية هي أيضا رمز لوحدة أهالي العلا بكافة أطيافهم ومكوناتهم الاجتماعية غير المعقدة التركيب الاجتماعي..فمن الناحية السيسيولوجية مجتمع العلا حضري ريفي في كل شيء وأصيل الثقافة مستقل المفاهيم الفكرية التي لم تترك ثقافة أخرى دخيلة عليه أثرها السلبي البالغ رغم تقاطع الحضارات والثقافات في مساحة العلا الجغرافية الصغيرة جدا وعبر آلاف السنين وليس مئات السنين وحسب ومن يعش في العلا يتعايش مع تركات مايقرب من 13 حضارة قديمة مابين مالكة بالتبعية والسطوة عن بعد أو حاكمة بالسيطرة المكانية..آثارها ومدوناتها المنحوتة على الصخر والحكايا الشفاهية المتوارثة دائمة الحضور لاينضب معينها عدا عن وقوع العلا على درب البخور ومن ثم درب قوافل الحجاج ومن ثم سكة قطار الحجاز..لكن مايزال مجتمع العلا حتى يومنا هذا يحتفظ ويتوارث بثبات ودقة امتداداته الجذرية المسيجة من الناحية البيئية ومن الناحية الثقافية كابرا عن كابر بسياج حصين متين..كان ومايزال عصيا على الاختراق والإخلال.

من جهة أخرى،وفي سياق متصل..مجتمع العلا الحضري الريفي القديم كتركيبة سكانية ماتزال باقية حتى اليوم بكامل خطوطها وخيوطها النسيجية مرصعة ب15 جوهرة بعدد عشائرها وبتقسيمة ثنائية قطبية تمثل(عشائر الحلف)و(عشائر الشقيق) حيث للحلف 9 عشائر وللشقيق 6 عشائر..ربطت بينهم أواصر القربى والنسب والعمومة والخؤولة والانصهار شبه الكلي ولايفصل المكونين عن بعضهما إلا حيز جغرافي جبلي لايكاد يرى بشكل دقيق فاصل إلا من خلال صورة ملتقطة من الجو.
لذلك يعرف للغريب عن العلا بالإشارة إليه من خلال الامتداد الجبلي الشرقي الغربي لمايسمى جبل أم ناصر.
وبالتالي تقسيمات المجتمع الريفي لأهل العلا لاعلاقة لها بالتقسيمات العرقية بقدر ماهي تقسيمة جغرافية مكانية كانت تعرف في جانبها الشمالي محلة الشقيق.وفي جانبها الجنوبي محلة الحلف وبمرجعيات قبلية أصيلة 11 قبلية عربية كجذور جامعة في معظمها لمكوني الحلف والشقيق ولذلك عبر قرون من الزمن في حيز جغرافي محدد كبلدة العلا عوامل المصاهرة بالتزاوج جعلت من المكونين الجغرافيين مكونا اجتماعيا واحدا اسمه أهل العلا حيث يندر جدا إن لم ينعدم احتمال عدم وجود قرابة بين عوائل وعشائر هذا المجتمع الواحد.

وبذلك فالمكونين الاجتماعيين(الحلف والشقيق)لمن لايعرف التأصيل العلمي لتكوينهما على سبيل القياس للإدراك والمعرفة أشبه بمكوني( الشمل )في التكوينات الاجتماعية لنسق البادية العربية في العموم..حيث نجد أكثر من قبيلة أوعشيرة تنضوي تحت لواء مايسمى ب(الشمل) يقابله ويماثله مكون شمل آخر أو أكثر من شمل في ذات القبيلة كلاهما أبناء عمومة تحت مظلة القبيلة الأكبر(القبيلة الأم)ولكل شمل ديار ومراعي خاصة بها ويجمع بينهما التاريخ والحاضر ووشائج المحبة والتلاحم وأواصر القربى.ولأهل العلا تقاطعات متعددة مع مجتمع البادية المحيط بمنطقة البلدة القديمة من حيث المصاهرة والتبادلات التجارية وفي كل المنافع الحياتية

وهكذا هو الشأن الاجتماعي للتركيبة السكانية الريفية القديمة الممتدة لأهالي العلا بين المكونين(الشقيق والحلف)وبمنتهى البساطة وقمة الوعي بكنههما.

لذلك كما ذكرت آنفا احتفال أهالي العلا ظهيرة كل 22 ديسمبر أو 21 ديسمبر رغم بساطته واختزاله عمليا في ترقب ورصد وقت دخول مربعانية الشتاء لكنه من الناحية الفكرية وأثرها وتأثيرها وأبعادها على مجتمع العلا أعمق بكثير من ظاهر الحدث للأسباب التي مررت عليها هنا بعجالة في هذا العرض الطفيف والتوثيق المختصر وإن كان ليس عابرا.

فاللهم أدم نعمة المحبة والتواد والتراحم والتلاحم بين أهالي العلا بكل مكوناتهم القديمة والحديثة وبحاضرتهم وباديتهم وكل من استوطن العلا فأصبح من أهلها لاضيفا عليها..وكذلك على كل من يمشي فوق حبات تراب هذا الوطن العظيم وينعم بخيراته وأمنه وأمانه ورغد عيشه من مواطنين ومقيمين وزوارا هفت أفئدتهم إلى كل بقعة مباركة من أرض وطن الخير والعطاء والنماء
فنحن بحمد الله في زحام من النعم يجب أن نحمد الله عليها حمدا كثيرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى