مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بقلم الكاتب عبدالقادر مكي
خلال ستينيات القرن العشرين طرقت الموجه الجديدة في فرنسا مواضيع جادة وغير مألوفة إنما منسجمة ومتوازية مع إزدهار الوجودية كتيار فكري وتقنيات الأدب الحديث آنذاك نلاحظ ذلك في أفلام ألان رينيه جان لوك غودار كلود لولوش تروفو وشابرول وبعض الأعمال الأدبية لمارغريت دورا وناتالي ساروت،
لم يعد السيناريو في تلك الأفلام يعتمد على الحوار إلا في حالات الضرورة القصوى على نقيض الشائع والمألوف في السينما الأميركية والبريطانية والإيطالية لأن الكاميرا صارت العنصر الأهم في رواية قصة الفيلم عن طريق الصور
بالمقابل يمكننا القول إن الأدب الحديث أستفاد بدوره من الفن السينمائي فوائد جمة إذ غلب على أسلوب عديد من الأعمال الأدبية الحديثة الطابع البصري الذي يساعد القارئ على تخيل الأحداث والشخصيات وهو يقرأ الكتاب وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا
هكذا كان القارئ يتخيل الأحداث من خلال مطالعة الأدب البوليسي داشيل هاميت وريموند تشاندلر وميكي سبيلين قبل أن تنتج سينمائياً فيما كان يطلق عليه مصطلح الأفلام السوداء Film Noire كان القارئ يتخيل شخصيتي شرلوك هولمز والدكتور واطسن كإنسانين حقيقيين في روايات وقصص آرثر كونان دويل كما كان يتخيل عند قراءة روايات أغاثا كريستي ملامح شخصيتي المحقق البلجيكي هركول بوارو بشاربه المصفف ولهجته البلجيكية وملامح الكهلة لامعة الذكاء مس ماربل
كان القارئ يتخيل أيضا عند قراءة روايات جورج سيمنون شخصية المفتش ميغريه، كما كان يتخيل لدى مطالعة روايات دان براون ملامح أستاذ هارفارد في علم الرموز والدلالات روبرت لانغدون قبل أن يجسد دوره النجم توم هانكس.
هذه السمة البصرية الموحية لخيال القارئ في أعمال بعدد من كبار الروائيين الأجانب متوفرة أيضا في أعمال بعض الأدباء العرب نذكر منهم نجيب محفوظ، طه حسين، توفيق الحكيم، جبرا إبراهيم جبرا، حنا مينا، غادة السمان، عبد السلام العجيلي، يوسف إدريس، حليم بركات، عبد الرحمن منيف، وليد إخلاصي، الطيب صالح، غسان كنفاني، خيري الذهبي، إلياس خوري، أحلام مستغانمي، فواز حداد وسواهم من كبار المبدعين
للأسف الشديد، فإن نسبة قليلة من أعمال هؤلاء الروائيين العرب تم اقتباسه سينمائيا أو تلفزيونياً بينما لم يقارب أعمال الآخرين أحد من المنتجين والمخرجين
استخدم عدة كتاب تقنيات سينمائية حديثة في بناء رواياتهم وقصصهم
للأسف الشديد أيضاً فإن الغالبية العظمى من تلك الاقتباسات لم يكن موفقا على الإطلاق من الناحية الفنية، بل قللت المقاربات السينمائية والتلفزيونية من شأن العمل الأدبي الأصلي وشوهته لدرجة صدمت الأدباء أنفسهم قبل المعجبين بكتبهم، فجعلتهم يحجمون عن منح حق اقتباس مزيد من أعمالهم إلى الشاشتين الكبيرة والصغيرة.
لا شك أن السينما، إذن، تركت تأثيرا مهما على الأدب الحديث يماثل تأثر السينما بالأدب. هكذا، إذا أثرت الرواية والمسرح بالسينما في بداياتها، فإن القصة القصيرة والمسرح في العالم تأثرا بالفن السينمائي كثيرا في أواسط القرن العشرين.
بالتالي، استخدم عدة كتاب تقنيات سينمائية حديثة في بناء رواياتهم وقصصهم. يكفي أن يقرأ المرء بعض أعمال جورج أورويل، فرانز كافكا، غابرييل غارسيا ماركيز، إسماعيل كاداريه، ميلان كونديرا وإيزابيل الليندي من الروائيين، أو تنيسي وليامز، آرثر ميلر، بيتر شيفر، توم ستوبارد وروبرت بولت من المسرحيين، ليدرك جوهر هذه التأثير وحجمه.
تظل الفائدة الكبرى في علاقة الأدب بالسينما في قرننا الحادي والعشرين كامنة في التداخل بين الفنون المختلفة، ففي الأدب والسينما على حد سواء، تعلو القيمة بسمات الموسيقى والفن التشكيلي والشاعرية
يبقى العبء الأكبر في هذا المجال ملقىً على عاتق كاتب السيناريو، الذي يعقد عليه الأمل في أن يخلص لروح الأديب وجوهر رؤياه، وفي الوقت نفسه يتحرر من بنيان العمل الأدبي وأسلوبه اللغوي لينشئ مكانهما بنيانا بصريا موحيا للخيال، وشخصيات تنبض بالحياة
بالتالي فالأمر ليس مجرد محاكاة دقيقة لمسار الرواية أو القصة أو المسرحية، بل إعادة تركيب الدراما بصورة تترك تأثيرا عميقا على المشاهد. ذلك وحده سر نجاح السينما حين تجيد الاقتباس عن الأدب.